كانت البيتكوين في يوم من الأيام العملةَ المتمردة الدخيلة على عالم المال، بل كانت ترياقًا رقميًا للأنظمة المركزية والخدمات المصرفية التقليدية. ولكن مع تأثر الأسواق العالمية بتجدد حالة عدم اليقين الاقتصادي، أصبحت أكبر عملة رقمية في العالم أقرب إلى وول ستريت، لا إلى الخارج.
تجلى هذا التحول بوضوح في أعقاب إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن فرض رسوم جمركية شاملة بنسبة 10% على جميع الواردات الأجنبية. ورغم أن ترامب يروج لهذه السياسة باعتبارها وسيلة لاستعادة التجارة العادلة وتعزيز النمو المحلي، إلا أنها أثارت قلق المستثمرين وزادت المخاوف من ركود اقتصادي وشيك. تراجعت المؤشرات الرئيسية يوم الخميس: انخفض مؤشر ناسداك بنحو 6%، وتراجع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 5%، كما سجل مؤشر داو جونز خسائر فادحة.
لم تنجُ البيتكوين من التداعيات، حيث تراجع سعرها بأكثر من 5% خلال الـ 24 ساعة الماضية ليهبط إلى ما دون 82,000 دولار أمريكي، وهو انخفاض حاد مقارنةً بأعلى مستوى لها هذا العام عند 109,000 دولار. ولم يكن الإيثريوم وXRP بمنأى عن هذا التراجع، حيث انخفضت أسعارهما إلى حوالي 1,790 دولارًا و2.13 دولارًا على التوالي.
هذا ويرى بعض المحللين أن هذا الارتباط المتزايد بين العملات الرقمية والأسواق التقليدية لم يعد مفاجئًا، بل يعكس الحضور المؤسسي المتزايد في الأصول الرقمية. وأوضح مايك مارشال، رئيس قسم الأبحاث في Amberdata، أن التقارب بدأ يتبلور بوضوح بعد الموافقة على صناديق الاستثمار المتداولة الفورية لبيتكوين في أوائل عام 2024.
وأشار مارشال إلى أن “هذه المنتجات سهّلت بشكل كبير على كبار المستثمرين الوصول إلى بيتكوين على نطاق واسع. ونتيجة لذلك، بدأ يتصرف كغيره من الأصول عالية المخاطر والموجهة نحو النمو، وخاصة أسهم التكنولوجيا”.
مع استمرار أسعار الفائدة وتقارير التضخم وتحديثات سياسات البنوك المركزية في التأثير على أسواق الأسهم، باتت العملات المشفرة تتأرجح على نفس الإيقاع الاقتصادي. وأضاف مارشال: “عندما يقبل المستثمرون على المخاطرة، يرتفع سعر البيتكوين، وعندما يعزفون عنها، ينخفض”.
من جانبه، أعرب ديف بورتنوي، مؤسس شركة بارستول سبورتس، عن قلق يشاطره العديد من مستثمري العملات المشفرة: إذا كان من المفترض أن تكون البيتكوين مستقلة عن النظام المالي التقليدي، فلماذا تعكسه الآن عن كثب؟
وقال بورتنوي في منشور على الإنترنت: “عندما يرتفع السوق، ترتفع البيتكوين. وعندما ينخفض السوق، تنخفض البيتكوين. ماذا حدث لعدم الارتباط؟”.
يتردد هذا التساؤل في أوساط صناديق التحوّط ومكاتب الأبحاث، حيث استجابت أسواق التنبؤات بسرعة لحالة عدم اليقين الاقتصادي. فقد رفعت منصات مثل كالشي وبولي ماركت احتمالية حدوث ركود اقتصادي في الولايات المتحدة بنهاية العام إلى أكثر من 50%، مقارنةً بـ 40% فقط في اليوم السابق. وبالمثل، تعكس منصة ميرياد ماركتس احتمالات مماثلة بنسبة 53.6%.
يرجع جزء كبير من هذا التشاؤم إلى المخاوف من أن تؤدي الرسوم الجمركية إلى تباطؤ عالمي. ووصف آشيش شاه، من جولدمان ساكس، هذه السياسة بأنها “صدمة نمو”، متوقعًا أن تؤدي إلى ارتفاع أسعار المستهلكين وإضعاف الطلب. أما مجلة الإيكونوميست، فقد انتقدت القرار بشدة، واصفةً إياه بأنه “أحد أكثر الأخطاء الاقتصادية ضررًا وعبثية في العصر الحديث”.
تدعم البيانات الاقتصادية هذا الحذر، إذ أظهر مؤشر مديري المشتريات لشهر مارس أسرع معدل لارتفاع الأسعار منذ منتصف عام 2022، بينما انخفضت ثقة المستهلك إلى أدنى مستوى لها في أربع سنوات.
ومع ذلك، لا يتفق جميع المحللين مع هذا التشاؤم. يعتقد البعض، مثل ريان راسموسن، رئيس قسم الأبحاث في بيتوايز، أن هذا الاضطراب مؤقت. وقال: “بمجرد أن يهدأ السوق من فوضى ‘يوم التحرير’، سنبدأ في رؤية البيتكوين ترتفع من جديد”، مؤكدًا على توقعه بوصول البيتكوين إلى 200,000 دولار بنهاية العام.
ومع استمرار التقلبات، يبقى السؤال الأهم: هل أصبحت البيتكوين حقًا جزءًا من النظام الذي كانت تسعى إلى تغييره؟
يرى إريك بالتشوناس، محلل صناديق المؤشرات المتداولة في بلومبرغ، أن الأمر لم يُحسم بعد، قائلاً: “لا يزال الوقت مبكرًا. إمكانات نمو بيتكوين هائلة، لكنها في الوقت الحالي أقرب إلى أسهم التكنولوجيا منها إلى الذهب الرقمي”.
أما كوري كليبستن، الرئيس التنفيذي لشركة سوان بيتكوين، فيرى أن التراجع الحالي يمثل اختبارًا حقيقيًا. وقال: “في هذه اللحظات، ينسحب المتداولون قصيرو الأجل، بينما تكمن القيمة الحقيقية للبيتكوين في دورها طويل الأجل كمخرج من العملات الورقية، وليس في تحركات الأسعار اليومية”.
سواء بقيت البيتكوين حالةً شاذةً ماليًا أو أصبحت فئة أصول متكاملة في الاقتصاد العالمي، فإن هناك أمرًا واحدًا واضحًا: لم تعد بمنأى عن القوى التي تُشكل النظام المالي الأوسع.
