يشهد قطاع العملات الرقمية في الولايات المتحدة تحولات استراتيجية غير مسبوقة، وسط مزيج من القرارات السياسية والتنظيمية التي أعادت تشكيل العلاقة بين الشركات الرقمية وصانعي القرار. تأتي هذه التحولات في أعقاب سلسلة من الأحداث اللافتة، أبرزها عفو الرئيس ترامب عن تشانغ بينغ تشاو، مؤسس منصة بينانس، بالإضافة إلى إصدار قانون “GENIUS Act” والأوامر التنفيذية الداعمة للابتكار الرقمي، وكذلك ظهور شركات الكريبتو الكبرى كمانحين لمشروع قاعة الرئيس في البيت الأبيض.
العفو عن “CZ”: نهاية “حرب الكريبتو” التي أشعلها بايدن؟
في 23 أكتوبر 2025، أصدر الرئيس ترامب عفوًا عن تشانغ بينغ تشاو، مؤسس منصة بينانس، الذي كان قد اعترف بمخالفات متعلقة بمكافحة غسيل الأموال وقضى عقوبة بالسجن لمدة أربعة أشهر. يأتي هذا العفو بعد تسوية قانونية بين بينانس ووزارة العدل الأمريكية تضمنت دفع غرامة ضخمة بلغت 4.3 مليار دولار، مما أدى إلى منع المنصة من العمل في السوق الأمريكي لفترة. إلا أن العفو الرئاسي قد يمهد الطريق لإعادة دخول المنصة إلى السوق، ويشكل إشارة قوية للمستثمرين بأن الولايات المتحدة قد تتبنى نهجًا أكثر ودية تجاه العملات الرقمية في المرحلة المقبلة.
يمكن النظر إلى هذا العفو ليس فقط كقرار قانوني فردي، بل كرمز لتحول استراتيجي في السياسة الأميركية تجاه قطاع العملات الرقمية. فالبيت الأبيض وصف هذا القرار بأنه نهاية ما أسماه “حرب العملات الرقمية” التي اتسمت بمقاربات صارمة من إدارة الرئيس السابق بايدن، والتي كانت تركز على التشدد التنظيمي والملاحقات القضائية الصارمة للشركات الرقمية الكبرى.
من منظور تحليلي، يعكس هذا التغيير رغبة الإدارة الحالية في تعزيز الابتكار المالي الرقمي وجذب الشركات التقنية إلى الولايات المتحدة، بما يضع البلاد في مركز صناعة العملات الرقمية العالمية. العفو يعكس أيضًا اعترافًا متزايدًا بالدور المحوري للعملات الرقمية في الاقتصاد المستقبلي، خصوصًا فيما يتعلق بالتمويل اللامركزي، العملات المستقرة، والتقنيات المترابطة بسلاسل الكتل.
علاوة على ذلك، يمكن اعتبار هذا القرار إشارة للمستثمرين والشركات الرقمية بأن البيئة التنظيمية قد تصبح أكثر مرونة، ما قد يشجع على ضخ استثمارات جديدة في السوق الأمريكية ويدعم تطوير منتجات مالية مبتكرة. في الوقت عينه، يفتح العفو الباب أمام نقاش أوسع حول العلاقة بين السياسة والتنظيم، حيث يتعين على السلطات الموازنة بين تشجيع الابتكار وحماية الاستقرار المالي وحماية المستهلكين من المخاطر المحتملة.
التنظيمات الجديدة في الولايات المتحدة
في خطوة استراتيجية تهدف إلى إضفاء وضوح وتنظيم على قطاع العملات الرقمية، وقع الرئيس ترامب في يوليو 2025 على قانون “GENIUS Act”، الذي يمثل أول إطار تنظيمي شامل يركز على العملات المستقرة. يهدف القانون إلى تعزيز استخدام العملات المستقرة المدعومة بالدولار، مع وضع آليات حماية للشركات الرقمية من القيود المصرفية التقليدية، مما يسهل وصولها إلى الخدمات المالية الرسمية ويقلل من المخاطر التشغيلية.
إذا نظرنا إلى الأبعاد التنظيمية والاقتصادية، يشكل “GENIUS Act” تحولًا جوهريًا في تعامل الولايات المتحدة مع سوق الأصول الرقمية، حيث ينتقل القطاع من بيئة غامضة وغير محددة إلى إطار تنظيمي واضح وشفاف. هذا الوضوح له أثر مباشر على جذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية، إذ تمنح السياسات الواضحة المستثمرين ثقة أكبر في التوسع داخل السوق الأمريكية، خاصة مع تزايد أهمية العملات المستقرة في عمليات الدفع، التمويل اللامركزي، والتجارة عبر الحدود.
إلى جانب القانون، أصدرت إدارة ترامب أمرًا تنفيذيًا يدعم نمو القطاع، تضمن إنشاء مجموعة عمل للرئيس حول أسواق الأصول الرقمية. هذه الخطوة تشير إلى توجه الإدارة نحو تطوير سياسات تفاعلية واستباقية لمواكبة سرعة الابتكار في الصناعة، بدلًا من الاكتفاء بالرد على المخاطر بعد وقوعها. كما يفرض الأمر التنفيذي قيودًا على وكالات الدولة بعدم إصدار أو الترويج للعملات الرقمية للبنك المركزي، ما يعكس رغبة الإدارة في تعزيز القطاع الخاص كالمحرك الرئيسي للابتكار في التمويل الرقمي.
من الناحية الاستراتيجية، تجمع هذه التحركات بين تعزيز الابتكار وتشجيع الاستثمار من جهة، وضمان استقرار النظام المالي من جهة أخرى. فهي تسعى إلى خلق توازن بين المرونة التنظيمية والحد من المخاطر المحتملة، مع التركيز على العملات المستقرة كأداة رئيسية لتسهيل المعاملات المالية الرقمية. هذا النهج يعكس طموح الإدارة الأميركية في جعل الولايات المتحدة “عاصمة العملات الرقمية” العالمية، وجذب الشركات الرقمية الكبرى لتكون جزءًا من منظومة الاقتصاد الرقمي الوطني.
تمويل البيت الأبيض: نفوذ الكريبتو على الطاولة!
أحدثت الأخبار الأخيرة حول قائمة المتبرعين من القطاع الخاص لمشروع قاعة الرئيس ترامب في البيت الأبيض ضجة في مشهد العملات الرقمية الأميركي. إذ تضم القائمة، لأول مرة على مستوى رفيع، شركات كبرى في قطاع الكريبتو مثل كوين بيس وريبل وتيذر، إلى جانب شركات تقنية ضخمة أخرى مثل أمازون وغوغل، ما يشير إلى تحول جذري في مكانة قطاع الأصول الرقمية داخل السياسة الأميركية.
يمثل ظهور شركات العملات الرقمية في سجل مانحي البيت الأبيض إشارة قوية على أن القطاع لم يعد مجرد لاعب خارجي على هامش القرار السياسي، بل أصبح شريكًا فاعلًا في رسم السياسات المالية المستقبلية. فإسهام هذه الشركات في تمويل مشروع كهذا بقيمة 300 مليون دولار يعكس نفوذًا متزايدًا يوازي حجمها الاقتصادي، ويعزز قدرتها على التأثير في التشريعات التنظيمية المستقبلية، لا سيما في ما يتعلق بالعملات المستقرة والتمويل اللامركزي.
هذا النفوذ السياسي المحتمل يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالتحولات التنظيمية التي شهدتها الولايات المتحدة هذا العام، بدءًا من إصدار قوانين مثل “GENIUS Act” وحتى الأوامر التنفيذية الداعمة للابتكار في البلوكتشين، وصولًا إلى العفو الأخير عن مؤسس بينانس. إنّ تمويل مبنى رمزي كهذا قد يمنح شركات الكريبتو تأثيرًا غير مباشر على الأطر التنظيمية المستقبلية، من خلال تسهيل الحوار مع صانعي القرار وتعزيز موقعها في المنظومة السياسية الأميركية.
على صعيد السوق، يمكن لهذا التطور أن يؤدي إلى تعزيز الثقة بين المستثمرين المحليين والدوليين، حيث يراه الكثيرون مؤشرًا على بيئة أكثر ودية ووضوحًا للعملات الرقمية في الولايات المتحدة، مما قد يزيد من التدفقات الاستثمارية نحو شركات الكريبتو المحلية ويدعم مشاريع التمويل اللامركزي والعملات المستقرة. في المقابل، يثير هذا النفوذ تساؤلات حول تضارب المصالح والشفافية في العلاقة بين السياسة والقطاع الخاص، كما أشار النقاد من بينهم السيناتور إليزابيث وارن وكلينتون، الذين حذروا من مخاطر ما يمكن وصفه بـ “الدفع مقابل الوصول”.
باختصار، يُعيد ظهور شركات الكريبتو على المشهد السياسي الأميركي إعادة تعريف العلاقة بين القطاع الرقمي وصنع السياسات، ويضع الولايات المتحدة في موقع القيادة في تحديد مستقبل العملات الرقمية عالميًا. في الوقت عينه، يشكل هذا الحدث اختبارًا لقدرة المؤسسات على موازنة الابتكار الاقتصادي مع حماية الاستقرار المالي والنزاهة السياسية.
في نهاية المطاف، إنّ الولايات المتحدة تضغط بكل قوتها لترسيخ نفسها كـ “عاصمة العملات الرقمية العالمية”. إنها تستخدم كل أدواتها، بدءاً من العفو الرئاسي الجريء وصولاً إلى التشريعات الواضحة، لجذب الابتكار والشركات. فالكريبتو لم يعد مجرد موضة مالية عابرة، إنه عنصر استراتيجي يرسم مستقبل السياسة والاقتصاد في أميركا والعالم.
أما السؤال الآن: هل ستنجح الولايات المتحدة في الموازنة بين هذا النمو الهائل والحفاظ على نزاهة نظامها المالي والسياسي؟ الأيام المقبل ستحمل الإجابة!
